عظة عيد الصّعود الْمجيد للأب فارس سرياني

اِرتَفِعْ الّلهُمَّ على السّموات، وَليَكُن مَجدُكَ على الأرضِ كُلِّها (مزمور 6:108)

 في اليومِ الأربعين عَلَى قِيامَتِهِ الْمَجيدَة، صَعِدَ سَيِّدُنَا يَسوعُ الْمَسيحُ إلى السَّمَاء. صَعدُ يَسوعُ إلى حَيثُ قَدْ أَتى، وإلى حَيثُ سَوفَ يومًا نحنُ نَكون. وهوَ الّذي خَاطَبَنا قَبلَ ذَهابِهِ فَقَال: ﴿إنّي ذاهِبٌ لِأُعِدَّ لَكم مُقَامًا. وإذا ذَهبتُ وَأَعدَدتُ لَكُم مُقامًا، أَرجِعُ فَآخُذُكمُ إليَّ، لِتَكونوا أنتُم أيضًا حيثُ أنا أكون﴾ (يوحنّا 2:14-3). فَأيُّ مَصيرٍ يَنتَظِرُنا نحنُ الْمؤمنين، سِوَى الاتّحادُ الدّائِم، والكينونةُ الأبديّةُ في حَضرةِ الله؟! وَمَا عِيدُ الصُّعودِ الْمَجيدِ، إلّا تَذكيرًا بِهَذا الْمَصير، الّذي نحياهُ اليوم في الرّجاءِ سَاهرين وفي الإيمانِ ثَابِتين.

ثُمَّ أَنَّ حَدَثَ الصُّعودِ هوَ تَأكيدٌ عَلَى رُبُوبيّةِ الْمَسيحِ الأزَليَّة! فَهوَ وَحدهُ السَّيدُ الضَّابِطُ الكُلّ، الألِفُ وَاليَاء، البَدءُ وَالْمُنتَهَى، الكَلِمَةُ الّذي: ﴿بِه كَانَ كُلُّ شَيء، وَبِدونِهِ مَا كانَ شيءٌ مِمَّا كان﴾ (يوحنّا 3:1). وإذا مَا أَلْقَينا نَظرَةً عَلَى قَانونِ الإيمانِ الّذي نَتلوهُ، نَجِدُ هذهِ الحركةَ الخلاصيّة، بَينَ النُّزولِ وَبَينَ الصُّعود، الّتي قَامَ بِها الْمسيحُ الرّب. فهوَ لأجلِ خلاصِنا نحنُ البَشر: “نَزَلَ مِن السّماء”، وبعدَ أنْ أَتمَّ عَملَ الخلاص: “صَعِدَ إلى السّماء”. والْمسيحُ الّذي نَزلَ مِن السَّمَاء، ثُمّ ارتفعَ إلى السَّمَاء، إنّما يُريدنَا أن نَرتَفِعَ نحنُ مَعَه، لِنكونَ يومًا إلى جِوارِهِ في السَّمَاء، تمامًا كَمَا خَاطبَ بُطرسَ فَقال: ﴿إلى حيثُ أنا ذاهبٌ لا تَستطيعُ الآنَ أَن تَتبَعَني، ولكِن ستَتبَعُني بعدَ حين﴾ (يوحنّا 36:13).

أَضِف إلى ذَلِك أنَّ حَدَثَ صُعودِ الْمَسيحِ إلى السَّمَاء، تَبِعَهُ حَدَثٌ آَخرٌ لا يَقِلُّ عَنهُ أهميّةً، أَلا وهوَ حَدثُ العنْصرة (أعمال الرّسل 1:2-36)، وَنُزولِ الرّوحِ القُدسِ، وَحُلولِهِ عَلَى العَذراءِ والرُّسُل، وَبَدءِ رِسالةِ الكّنيسة، عَمَلًا بِمَا أَوصَى بهِ الْمسيحُ تَلاميذَهُ قبلَ صعودِه، حينَ قال: ﴿اِذْهَبوا وَتَلمِذوا جَميعَ الأُمَم، وَعَمِّدوهم باسمِ الآبِ والابنِ والرّوحِ القُدس، وعلِّموهم أنْ يَحفَظوا كُلَّ مَا أَوصَيتُكُم بِه﴾ (متّى 19:28-20).

وَفي حَدثِ العَنصرة، الّذي سَنُحييهِ بَعدَ عَشرَةِ أيّامٍ، نُعلِنُ إيمانَنَا بأَنَّ صُعودَ الْمسيحِ إلى السَّمَاء، والّذي يُمثِّلُ نهايةَ حَياتِهِ بالجَسَدِ عَلَى الأرض، يَستَمِرُّ مِن خلالِ عَمَلِ الرّوحِ القُدس، الّذي هَبَطَ وأُفيضَ عَلينا.

أَمَّا عَلَى الْمُستوى الليتورجي، فَنَحنُ في كُلِّ قُدّاس نُمارِسُ فِعلَ صعود! حينَ نهتِفُ قَائلين: ((لِنَرفَع قُلوبَنا إلى العُلى، إنّها لَدَى الرّب))، دَليلًا عَلَى أنَّ قُلوبَنا تَصعَدُ وَتَرتفِعُ صُوبَ جلجُلَةِ الْمَذبَح، لِتُشارِكَ في ذَبيحَةِ الْمَسيحِ الخلاصيّة، ونَتغَذَّى مِن: ﴿الخُبزِ النّازِلِ مِنَ السَّمَاءِ، يأكُلْ مِنهُ الإنسانُ وَلا يَموت﴾ (يوحنّا 50:6).

يَصِفُ سفرُ أعمالِ الرّسل حالَةَ التّلاميذِ الجَسديّة خِلالَ حَدثِ الصُّعودِ قَائِلًا: ﴿وَبَينَما عُيونُهم شَاخِصَةٌ إلى السَّمَاء﴾ (أع 10:1). هَذهِ الحالةُ الجسديّةُ تَدَلُّ عَلَى حَالةٍ وُجْدَانيّةٍ أَعمق مِنها، فَقُلوبُهم كَانَت مُعَلّقةً بِيسوع، وَكَأنّها تُريدُ الَّلحاقَ بِه، ولا تُريدُه أنْ يُفلِتَ مِنها. وهذا تَصديقٌ لِمَا قالَه يسوع: ﴿وأَنَا إذا رُفِعتُ منَ الأرضِ، جَذَبتُ إليَّ النّاسَ أَجْمَعين﴾ (يوحنّا 32:12). فَيسوعُ بالرّغمِ مِنْ صُعودِهِ وَذهابِهِ بِهيئَتِه البَشَريّة، إلّا أنّهُ لا يزالُ على مَرِّ العُصورِ والأجيَال، يجذِبُ إليهِ نُفوسَ وَقُلوبَ كَثيرين.

لحظَةَ الصُّعودِ كَانَت أَنظارُ التَّلاميذِ شاخِصةً نَحوَ السَّمَاء، فَهَلّا تَساءَلنا: مَا هي السَّمَاء؟ السّماءُ الّتي نَرجوها، وكَمَا يَصِفُها التّعليمُ الْمَسيحيُّ للكَنيسةِ الكاثوليكية، هيَ: “تِلكَ الحياةُ الكامِلةُ مع الثّالوثِ الأقدس، وَمَع مريمَ العَذراء والْمَلائكةِ والطّوباويّين. هيَ غايَةُ الإنسانِ القُصوَى، وَتحقيقُ أَعمَقِ رَغَبَاتِه، وحالَةُ السَّعادةِ الفَائِقةِ والنّهائيّة. أنْ نَحيا في السّماءِ، يَعني أن نكونَ مع الْمسيح، فَحيثُ الْمَسيح، هناكَ الحياة” (ت ك ك، رقم 1024، 1025).

أَخيرًا، يقولُ الْمزمورُ الثّامِنُ بَعدَ الْمائة: ﴿اِرتَفِعْ الّلهُمَّ عَلَى السَّمَوات، وَليَكُن مَجدُكَ على الأرضِ كُلِّها﴾ (مزمور 6:108). واللهُ يَا َأحبّة، الّذي نُخاطِبُهُ كُلَّ يَومٍ قَائلين: ((أَبانَا الّذي في السّموات))، يَتَمَجَّدُ عَلى الأرضِ فينَا، ومِنْ خِلالِنَا نحنُ أَبناءَه. فَحَتّى تِلكَ الّلحظَةِ الّتي فِيهَا سَنصعَدُ يومًا، إلى الْملَكوتِ الأبديّ، حَيثُ الْمَسيحُ رَأسُنا قَدْ سَبَقَنا لِيُعِدَّ لَنا مُقامًا، دَعونَا نَحيَا في البرِّ والتَّقوى والقَداسَة، كَمَا يحثُّنَا بُولسُ الرّسول قائِلًا: ﴿لَقَدْ اِشتُريتُم وَأُدِّيَ الثّمن. فَمَجِّدوا اللهَ إذًا في أجسادِكُم﴾ (1قورنتوس 20:6).

 

الأب فارس سرياني/ كاهن كنيسة سيدة الوردية في الكرك

Facebook
Twitter
WhatsApp
Email